حرب الضفة- تطهير عرقي وإبادة على طريقة غزة

المؤلف: عريب الرنتاوي10.13.2025
حرب الضفة- تطهير عرقي وإبادة على طريقة غزة

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد عملية عسكرية أخرى كالحملات السابقة التي لطالما استباحت مدن وقرى الضفة الغربية، بالرغم من كون ما نشهده اليوم هو الأعنف والأكبر منذ عقدين. بل هي حرب شاملة على الضفة الغربية، تعيد إنتاج سيناريوهات مأساوية كتلك التي شهدها قطاع غزة، حيث الحصار والتطهير العرقي والإبادة الجماعية. هذا ما أكده وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، المنتمي لليكود الليبرالي، والذي يُعتبر أقل تطرفًا من تيار الصهيونية الدينية المتشددة.

إنها الحرب على ما يسمونه "يهودا والسامرة"، وفقًا للمصطلحات التوراتية العبرية. نتنياهو نفسه، وليس فقط بن غفير وسموتريتش، يعتبر هذه المناطق جزءًا لا يتجزأ من "أرض إسرائيل الموعودة"، وأن الاستيطان فيها و"تطهيرها" من سكانها الأصليين هو تجسيد لـ"حق اليهود في العودة"، وممارسة للسيادة. وقد تم تعزيز هذا التوجه بقرارين اتخذهما الكنيست يؤكدان على "الحق الحصري لليهود في ممارسة تقرير المصير بين النهر والبحر".

هذان القراران حظيا بأغلبية ساحقة، شملت نواب الائتلاف اليميني الحاكم، وكذلك نواب "المعارضة اليمينية". فإسرائيل اليوم، كما يرى الجميع، منقسمة بين يمين متطرف في السلطة، ويمين لا يقل تطرفًا في المعارضة. هذه النتيجة هي حصيلة مسار طويل من الانزلاق نحو التطرف الديني والقومي الذي اجتاح المجتمع الإسرائيلي على مدار العقدين الماضيين على الأقل. ويمكن تتبع جذور هذه التحولات إلى عام 1977، عندما فاز الليكود بزعامة مناحيم بيغن على الحركة العمالية التي أسست الدولة والكيان، في ما عُرف بالانقلاب اليميني الأول.

لماذا شمال الضفة؟

يشكل شمال الضفة الغربية البؤرة الأساسية لهذه الحرب، والساحة الرئيسية لأحداثها، على الأقل في هذه المرحلة. ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، من بينها أن مدن الشمال ومخيماته قد تحولت في السنوات الأخيرة إلى مراكز للمقاومة، بكتائبها وتشكيلاتها المتنوعة، التي بدأت تمتد إلى مناطق أخرى من الضفة المحتلة لم تكن معروفة على خريطة المقاومة. هذه المقاومة تكاد تنسخ تجربة غزة، من حيث كثافة العمليات، وتطوير أساليب القتال، واكتساب هامش حركة للمقاومين لم يكن مسبوقًا، في ظل استمرار "التنسيق الأمني" بين السلطة والاحتلال.

وفي ظل الدعم الشعبي القوي وغير المعهود للمقاومة والمقاومين، جعل جيل الألفية، أو ما يعرف بـ"الجيل Z"، رموز المقاومة أيقونات له. من نابلس و"عرين الأسود"، إلى جنين المخيم والمدينة و"الكتيبة"، مرورًا بطولكرم وقلقيلية وطوباس والمخيمات المحيطة بها، والتي كانت دائمًا حاضنة قوية للثورة الفلسطينية في بداياتها، وللمقاومة في مرحلتها الجديدة.

هذا الجيل يرفض "هندسات" توني بلير والجنرال كيث دايتون ونظرية "الإنسان الفلسطيني الجديد"، المثقل بقروض البنوك، ومطالبهم، والاقتصاد الاستهلاكي، والأجهزة الأمنية الجديدة الملتزمة بنظرية الجنرال حول إسرائيل كحليف قائم ومحتمل، والمقاومة كعدو ومصدر تهديد، بل و"خطر مشترك" على السلطة وإسرائيل، يجب "التنسيق" للقضاء عليه والتصدي له.

لم يكن للضفة الغربية أن تنجو من تبعات هذه "الهندسات" لولا صعود هذا الجيل، جيل الألفية، الذي تحرر من قيود "الكمبيالات" والقروض، ومن قيود التنسيق و"الإنسان الجديد"، الجيل الذي لم ينخرط بعد في الدورة الاقتصادية التقليدية. ها هي الضفة الغربية تتخلص من غبار حقبة التنسيق الأمني، وتكسر قيود "الموفد الأممي"، بطل الحرب على العراق، وأكثر رؤساء حكومات بريطانيا إثارة للشك والريبة، الذي عمل جنبًا إلى جنب مع الجنرال الذي ترتبط بشخصه "العقيدة الأمنية" للأجهزة التي أعيد تشكيلها بعد الانتفاضة الثانية، واغتيال ياسر عرفات.

في هذا السياق، يمكن فهم ظاهرة تمركز المقاومة في المناطق الطرفية الريفية، وفي الأحزمة المهمشة حول المدن: "المخيمات"، حيث النسبة الأكبر من الشباب الذين نشأوا وترعرعوا خارج هذه "الهندسات"، وبعيدًا عن مركز السلطة وتمركز أجهزتها.

إن شمال الضفة الغربية، بكثافته السكانية الفلسطينية وندرَة الوجود الاستيطاني فيه، يشعل الأضواء الحمراء في العقول الصهيونية المشبعة بالكراهية والأساطير، مما يؤدي إلى ظهور مشاريع عنصرية تهدف إلى التهجير القسري لهذه المراكز الحضرية، وإطلاق العنان للاستيطان في هذه المناطق، بعد التحرر من قيود قرار "فك الارتباط" عن غزة، الذي شمل مساحات واسعة من شمال الضفة، قبل أن تسقطه حكومة اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، ليصبح الاستيطان مباحًا في هذه المنطقة، وتسقط حرمة العودة للمستوطنات والبؤر الاستيطانية السابقة على قرار فك الارتباط عام 2005.

شمال الضفة الغربية، بمخيماته المنتشرة على أطراف المدن والبلدات، يصبح هدفًا للتوسع العدواني الإسرائيلي، وبالتالي، يصبح تدمير المخيم – وإبادة كل مظاهر الحياة فيه، وتحويله إلى مكان غير صالح للعيش البشري – هدفًا استراتيجيًا لتهجير أهله وسكانه. ففي العقلية الصهيونية، يمثل المخيم دائمًا شاهدًا على اللجوء والنكبة، وتذكيرًا بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى قراهم ومدنهم التي هُجِّروا منها. ولعل الحرب الحالية توفر فرصة مواتية للتخلص من المخيم ورمزيته، وتشتيت سكانه، في غزة وبالأخص في الضفة.

منذ بداية الحرب على غزة، بل ومنذ قرار فك الارتباط الذي اتخذه أرييل شارون، أحد أقطاب اليمين والجنرال الأكثر شهرة في حروب إسرائيل مع العرب، كان واضحًا لكل ذي بصيرة أن إسرائيل، من خلال إعادة انتشارها حول قطاع غزة، وفرض حصار جائر ومطول عليه، وخوض سلسلة لا تنتهي من الحروب والمعارك بين الحروب، كانت تستهدف الضفة الغربية بالأساس. وبينما تدور رحى الحرب في القطاع المنكوب، فإن عيون اليمين المتطرف في إسرائيل مثبتة على الضفة الغربية، مع العلم أن الشهية التوسعية الإسرائيلية لا تستثني غزة ولا تخرجها من دائرة الاستهداف أبدًا.

ولكن الإسرائيليين أدركوا من خلال تجربتهم الاحتلالية الطويلة للقطاع أن ثمن البقاء فيه أعلى بكثير من ثمن الانسحاب منه. لذا جاء قرار الانسحاب الأحادي الجانب ليحفز أسرع عمليات الأسْرلة والتهويد للقدس والضفة، وبدرجة أقل من المقاومة، في ظل تقاسم مشبوه للأدوار بين السلطة والاحتلال، إلى أن بدأت الضفة تستعيد عافيتها من جديد، وتبدأ مسيرة مقاومة الاحتلال، قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وبالأخص بعده، وبتأثيراته وتداعياته الملهمة.

حسم الصراع

لقد وجد اليمين المتطرف في الحرب على غزة فرصته الذهبية لتحويل نظرية "حسم الصراع" التي طورتها الصهيونية الدينية من عقيدة لفريق إسرائيلي هامشي إلى نظرية للدولة بكل مستوياتها ومؤسساتها. فالحرب على غزة أصبحت محكومة بهذه النظرية ومتطلباتها، بما في ذلك التطهير العرقي والإبادة الجماعية، وتحويل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش البشري، تمهيدًا للتهجير بشقيه القسري و"الطوعي".

وقبل أن تنتقل آثار نظرية الحسم إلى الضفة، من خلال الدعوة إلى التعامل مع مخيمات بلاطة ونور شمس كما تم التعامل مع جباليا والنصيرات، والدعوة إلى تحريك السكان، كما يجري العمل في غزة، والادعاء بأنه "تحريك مؤقت"، بينما يدرك الفلسطينيون، صغارًا وكبارًا، من تجربتهم الطويلة مع هذا الاحتلال، أن كل مؤقت يصبح دائمًا، وأن من يخرج منهم من بيته لن يعود إليه أبدًا.

الحرب على الشمال هي ذروة جديدة تستكمل بها إسرائيل حملاتها في الضفة، بإسقاط ما يقرب من 700 شهيد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والزج بما يزيد عن 10 آلاف مناضل في أقبية سجونها الرهيبة، بالإضافة إلى مصادرة أكثر من 24 ألف دونم من أراضي المواطنين، وزرع 25 بؤرة استيطانية جديدة، وتهجير ما يقرب من 2000 مواطن من مناطق الأغوار وجنوب الخليل إلى مراكز المدن.

ناهيك عن إطلاق العنان لقطعان المستوطنين المدججين بالسلاح وأيديولوجيا الإبادة والتطهير ليعيثوا حرقًا وقتلًا في البلدات والقرى، بحماية الجيش، وبقرار حكومي يسمح "باصطياد" المارة في الشوارع، فضلًا عن استباحة المقدسات، والتجاهل الكامل لمقتضيات الرعاية الأردنية لها، وصولًا إلى الكشف عن النية ببناء كنيس في حرم الأقصى وإباحة الصلاة لليهود فيه دون قيد أو شرط.

والحقيقة أن إسرائيل ما كانت لتجرؤ على هذه الاستباحة للدم والحقوق والمقدسات الفلسطينية، لولا اطمئنانها لاستمرار السلطة الفلسطينية على مقاعد الانتظار، واستمرار "التنسيق الأمني" الذي كشفت صحيفة "هآرتس" أنه لم يتأثر بمجريات حرب التطهير والإبادة في غزة.

كما أن إسرائيل تشعر بالاطمئنان لضعف وتدهور المواقف العربية والإسلامية الرسمية والشعبية، وللنفاق الدولي المستمر الذي يكتفي في أحسن الأحوال بالتعبير عن القلق إزاء ما يجري من قتل وتشريد وتدمير للبشر والشجر والحجر، بينما تعلن واشنطن صراحة أنها ستدعم إسرائيل ظالمة أو مظلومة في حروبها المتعددة الجبهات ولمواجهة أسوأ السيناريوهات.

إسرائيل ما كانت لتجرؤ على فعل الاستباحة لو أنها كانت على يقين بأن شرارات هذه الحرب ستنتشر في الإقليم، وأن حلفاء المقاومة في جبهات الإسناد سيذهبون أبعد من قواعد الاشتباك المعمول بها طيلة أشهر هذه الحرب التي تقترب من إتمام عامها الأول. حالة "الارتياح" التي تعيشها إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة، لتراجع سيناريو الانزلاق من حافة الهاوية إلى قاعها، هي ما يدفعها لإغلاق الأبواب في وجه الوسطاء في غزة، ونقل الحرب دون تردد إلى الضفة الغربية.

بعد الحسم: التوجه غربًا وشرقًا

لقد وضعت نظرية "حسم الصراع" الإسرائيلية الفلسطينيين في كل فلسطين التاريخية، بمن في ذلك فلسطينيي 1948، أمام ثلاثة خيارات: الاستسلام والخنوع للاحتلال، الهجرة إلى دولة ثالثة مع تسهيلات ومساعدات إسرائيلية، أو الموت والسجن.

وإذا كانت قلة من الفلسطينيين قد اختارت الذلة والخنوع، فإن غالبية الفلسطينيين، وخاصة أجيالهم الجديدة، قد اختارت المقاومة كخيار رابع، حتى وإن أدى ذلك بأعداد كبيرة منهم إلى الدخول في اختبار السجن أو الشهادة. وهذا هو المعنى الأعمق لصور الصمود والبطولة المنبعثة من غزة ورفح وخان يونس، ومن جنين وطولكرم وطوباس وغيرها.

لكن نظرية "حسم الصراع" لا تختبر قدرة الفلسطينيين على الصمود والثبات والمقاومة فحسب، بل تختبر كذلك، أو بالأحرى تتحدى، أعمق المصالح الوطنية العليا لكل من مصر والأردن، وبالذات الأخيرة. فإذا كان "الحسم" و"التهجير" يمثلان مصدر إزعاج أو تحد أمني لمصر، فإنهما في الحالة الأردنية يمثلان تهديدًا وجوديًا للدولة والكيان والهوية الوطنية.

فتيار "الحسم" في إسرائيل لا يبالي بمصالح الأردن واستقراره، ولا حتى بوجوده. تاريخيًا، نظر هذا التيار إلى الأردن على أنه "شرق فلسطين"، وملاذ لحل القضية الفلسطينية خارج فلسطين، في الأردن وعلى حسابه وعلى حساب فلسطين في الوقت ذاته. وإذا قُدِّر للحسم أن يسير في طريقه، فإن إسرائيل ستتجه غربًا لتصفية "الجيب العربي" في مناطق 1948، وشرقًا نحو الأردن، الدولة الأكثر ترجيحًا من وجهة نظر هذا اليمين، لاستيعاب نتائج الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية.

ولا شك أن أصحاب نظرية "الحسم" قد ابتهجوا وهم يستمعون للمرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب، الذي نظر إلى الخريطة ووجد إسرائيل كيانًا صغيرًا جدًا، فأعرب عن رغبته في "توسيعه". والأرجح أنه لم يكن يخطط لـ"ردم البحر" لإنجاز هذه التوسعة، بل كان يشير إلى احتمالات توسعها على حساب الجوار العربي، أو ما كان يعرف باسم "دول الطوق" التي يرشحها ترامب كـ "دول للتوسعة".

يفرض ذلك كله مقاربات فلسطينية وعربية جديدة، تقوم على إسقاط النظريات الساذجة حول "حل الدولتين" و"التطبيع" الذي يفترض أن يقلل من حدة السلوك الإسرائيلي، و"السلام كخيار استراتيجي وحيد"، مع محتل لا يريد السلام ولا يكترث بالتطبيع مع أحد، ويعمل على تدمير كل فرصة لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، ولا يخفي أطماعه في التهجير والتوسع، والتخلص من الزيادة السكانية الفلسطينية في سيناء والأردن.

لقد آن الأوان لإحداث تغيير جوهري واسع النطاق، ليس فقط في نهج القيادة الفلسطينية، بل وفي تركيبتها وشخصياتها. فالفلسطينيون يخوضون اليوم حرب بقاء ووجود، وهي حرب طويلة الأمد وتستمر لأجيال، ولا يمكن الاستمرار في الوضع الراهن، وهذا موضوع آخر يستحق الدراسة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة